وتكلموا على هذه الشبهة فى آيتين:
الأولى:
هو قوله تعالى: (لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً ) (1).
نظروا فى هذه الآية، فوقعت أعينهم على كلمة " المقيمين " فقارنوا بينها وبين ما قبلها: " الراسخون " ـ " المؤمنون " وبين ما بعدها " المؤتون " ـ " المؤمنون " فوجدوا ما قبلها وما بعدها مرفوعاً بـ " الواو " لأنه جمع مذكر سالم ؛ أما " المقيمين " فوجدوها منصوبة بـ " الياء " لأنها كذلك جمع مذكر سالم.حقه أن يرفع بـ " الواو " وينصب ويجر بـ " الياء ". وسرعان ما صاحوا وقالوا إن فى القرآن خطأ نحويّا من نوع جديد ، هو " عطف المنصوب على المرفوع ، أو نصب المعطوف على المرفوع ". ثم علقوا قائلين:
" وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول: " والمقيمون الصلاة " ، هذا هو مبلغهم من الجهل ، أو حظهم من العناد وكراهية ما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم .
الرد على الشبهة:
هذه الآية وردت فى سياق الحديث عن اليهود تنصف من استحق الإنصاف منهم ، بعد أن ذم الله تعالى من عاند منهم ، وحاد عن الحق ، فى الآيات التى سبقت هذه الآية.
ومجىء " المقيمين " بالياء خلافاً لنسق ما قبله وما بعده لفت أنظار النحاة والمفسرين والقراء ، فأكثروا القول فى توجيهه ـ مع إجماعهم على صحته.
وقد اختلفت أراؤهم فيه وها نحن نقتصر على ذكر ما قل ودل منها فى الرد على هؤلاء الكارهين لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ولن نذكر كل ما قيل توخياً للإيجاز المفهم.
وأشهر الآراء فيها أن " المقيمين " منصوب على الاختصاص المراد منه المدح فى هذا الموضع بدلالة المقام ؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن ، جديرون بأن يُمدحوا من الله والناس.
يقول الإمام الزمخشرى:
" و " المقيمين " نُصِبَ على المدح ، لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً فى خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان " (2).
الزمخشرى أوجز كلامه فى الوجه الذى نُصب عليه " المقيمين " وهو الاختصاص مع إرادة المدح (2).
الاختصاص هو مخالفة إعراب كلمة لإعراب ما قبلها بقصد المدح كما فى هذه الآية ، أو الذم. ويسمى الاختصاص والقطع.
ومع إيجازه فى عبارته كان حكيماً فيها ، ومن الطريف فى كلامه إشارته إلى خطأ من يقول إن نصب " المقيمين " لحن فى خط المصحف ـ لا سمح الله ـ ثم وصفه بالجهل بمذاهب العرب فى البيان ، والتفنن فى الأساليب ، وكأنه ـ رحمه الله ـ يتصدى للرد على هؤلاء الطاعنين فى القرآن ، الذين نرد عليهم فى هذه الرسالة.
والرأى الذى اقتصر عليه الإمام الزمخشرى هو المشهور عند النحاة والمفسرين والقراء.
وقد سبق الزمخشرى فى هذا التوجيه شيخ النحاة سيبويه وأبو البقاء العكبرى (4).
وهذا الاختصاص أو القطع بيان لفضل الصلاة التى جعلها الله على الناس كتاباً موقوتاً ، وأمر عباده بإقامتها والمحافظة عليها فى كثير من آيات الكتاب العزيز ومثَّلها رسوله صلى الله عليه وسلم ـ كما فى صحيحى البخارى ومسلم ـ بالنهر ، الذى يستحم فيه المكلف فى اليوم خمس مرات ، فيزيل كل ما علق بجسمه من الأدران والأوساخ ، وكذلك الصلوات الخمس فإنها تمحو الخطايا ، وتزيل المعاصى كما يزيل الماء أدران الأجسام.
أما الآراء الأخرى فكثيرة ، ولكنها لا تبلغ من القوة والشيوع ما بلغه هذا الرأى ، وهو النصب على الاختصاص أو القطع.
وقد أوردوا عليه شواهد عدة من الشعر العربى المحتج به لغويّا ونحويّا. ومن ذلك ما أورده سيبويه:
ويـأوى إلى نسـوة عُطَّلٍ
وشُعْثاً مراضيع مثل الثعالى
ومنها قول الخرنق بنت هفان:
لا يبعدنْ قومى الذين همو
سمُّ العـداة وآفـة الجزْر
النازلين بكل معتــركٍ
والطيبون معاقد الأُزْر (5)
والشاهد فى هذه الأبيات ، نصب " شُعثا " فى البيت الأول وهو معطوف على مجرور " عُطَّلٍ ".
والشاهد فى البيتين الآخرين نصب " النازلين " وهو معطوف على مرفوع ، وهو " سمُّ العداة ".
هذا ، وقد قلنا من قبل إن القرآن غير مفتقر إلى شواهد من خارجه على صحة أساليبه ، ومع هذا فإن ورود هذه الشواهد نرحب به ولا نقلل من شأنه ، ومنهم من جعل " المقيمين " مجروراً لا منصوباً ، وقال إن جره لأنه معطوف على الضمير المجرور محلاً فى " منهم " والمعنى على هذا:
لكن الراسخون منهم والمقيمين الصلاة.
وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على الكاف فى " أنزل إليك " وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على " ما " فى " بما أنزل إليك ".
أو هو مجرور بالعطف على " الكاف " فى " قبلك " (6).
والخلاصة:
إن الذى ينبغى الركون إليه ـ لقوته ـ هو الرأى الأول ، المنسوب إلى سيبويه وأبى البقاء العكبرى والزمخشرى وابن عطية ، أما ما عداه من آراء فلا تخلو من التكلف أو الضعف.
أما النصب على الاختصاص فلا مناص من قبوله ؛ لأنه أسلوب شائع فى الاستعمال اللغوى العربى ، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوى ، الذى لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الجر.
الثانية:
قوله تعالى: (.. والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس ) (7).
وشاهدهم على هذه الشبهة هو قوله سبحانه: " والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس " لأنه جاء منصوباً بـ " الياء " بعد قوله تعالى: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ".
وكان يجب أن يرفع المعطوف ـ يعنى: الصابرين ـ على المرفوع ـ يعنى: الموفون ـ فيقول: والموفون والصابرون "، هذا قولهم.
الرد على الشبهة:
يُحسن بنا أولاً أن نذكر هذه الآية بتمامها لننظر فيها نظرة جُملية قبل مواجهة ما آثاره الخصوم حولها:
(1) (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين).
(2) (وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب).
(3) (وأقام الصلاة وآتى الزكاة).
(4) (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا).
(5) (والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
ترى أننا وزعنا كلمات هذه السورة على وحدات كل وحدة منها تضم معانى وقيماً متجانسة.
الوحدة الأولى: قيم إيمانية تنتظم تحت مفهوم العقيدة وهى: الإيمان بالله ، وباليوم الآخر ، وبالملائكة ، وبالوحى ، ثم بالأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم .
والوحدة الثانية: تنتظم عناصرها تحت مبدأ " الإنفاق المالى الحر (غير الزكاة) ويبين الله فيها الصفات التى تتحقق فى المنفق عليه ، وهم:
- ذوو القربى من النسب.
- اليتامى مهما تباعدت صلتهم عن المنفق.
- المساكين ، الذين ليس لهم مصدر رزق كسبى ، إما لعدم وجود عمل ، أو لعجز عنه.
- الغرباء الذين تعوزهم الحاجة فى السفر ، وليس معهم مال وإن كانوا أغنياء فى بلادهم.
- المحتاجون ـ حقاً ـ الذين يستعطفون الناس لسد حاجتهم فى غير معصية.
- عتق الرقاب من الرق ، إما تطوعاً ، أو كاتب السيد عبده على مقدار من المال ليصير حراً.
والوحدة الثالثة: يندرج عنصراها: الصلاة والزكاة تحت ركنين عمليين من أركان الإسلام ، والزكاة إنفاق واجب ، وليس حراًّ.
والوحدة الرابعة: هى حسن المعاملة مع الناس بوفاء الوعد والعهد.
والوحدة الخامسة: تنتظم عناصرها تحت مبدأ الصبر الجميل فى كل عمل خير يؤديه المكلف ، وبخاصة فى الشدائد والمحن وملاقاة العدو.
أما الوحدة السادسة: فهى بيان فضل هؤلاء المذكورين فى الآية ، وبخاصة ما ذكر قبل الفاصلة مباشرة ، ومنزلتهم عند الله:
" أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ".
وإذا تأملت هذه الوحدات ، وعناصرها المندرجة تحتها ، وجدت أن أشدها وقعاً على النفس ، وأكثرها أعباء ، وأشقها كلفة ، هى الصبر فى المحن والشدائد والأخطار ، وبخاصة فى ملاقاة العدو ، والتعرض لزحفه وسلاحه ، وقد يفضى بالإنسان إما إلى حدوث عاهات مؤلمة فى الجسم ، وإما إلى الموت. فالمقاتل فى ساحات الكر والفر إنما يصارع الموت ، ومقدمات الموت.
ولهذا جاء إعراب " الصابرين " مخالفاً لإعراب ما قبلها ، ليلفت الله أذهان العباد إلى أهمية الصبر فى هذه المجالات ، وهذا الإعراب المخالف لما قبله مع تركيز الانتباه ، وتوفير العناية بتأمُّل هذا الخلق العظيم ، يفيد أمراً آخر مبهجاً للنفوس ، هو مدح هؤلاء الصابرين شديدى العزيمة ، قويى الاحتمال.
فانظر إلى نفائس هذه المعانى ، التى دل عليها نصب " الصابرين " مع كون ما قبله مرفوعاً. إنها بلاغة القرآن المعجز ، وعبقرية اللغة العربية لغة التنزيل الحكيم.
وهذا الإعراب المخالف لإعراب ما قبله ، هو الذى يسميه النحاة واللغويون بـ " القطع " كما تقدم فى نظيريه فى هذه الدراسة ، إما للمدح كما فى هذه الآية ، وآية النساء " والمقيمين الصلاة " وقد تقدمت.
وإما بقصد الذم ، كما فى قوله تعالى فى سورة المسد " وامرأته حمالةَ الحطب " أى امرأة أبى لهب التى كانت تحمل الشوك وتنثره فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤذيه. لأن كلمة " حمالة " جاءت منصوبة بعد رفع ما قبلها ، وهى " امرأتُه " فهذا قطع كذلك ، القصد منه الذم ، أى: أذم أو ألعن حمالة الحطب.
وأياً كان القطع للمدح أو الذم ، فإنه من أرقى الأساليب البلاغية ، يحتوى على فضيلة الإيجاز وهى أن تكون المعانى أكثر وأوفر من الألفاظ التى تدل عليها ، أو المستعملة فيها ، لأن كل كلمة قُطِعَ إعرابها عما قبلها نابت هذه الكلمة مناب ثلاثة قيم بيانية ، رامزة إلى وجودها فى المقام ، وإن كانت محذوفة وهى:
1 ـ الكلام الذى عمل الإعراب المخالف فى الكلمة المقطوع إعرابها عن إعراب ما قبلها ، وهو فى " الصابرين " أمدح أو أخص الصابرين بالمدح. وفى آية " المسد " أذم أو ألعن.
2 ـ إفادة المدح أو الذم بغير الألفاظ التى تدل عليهما.
3 ـ فضيلة الإيجاز البيانى المفعم بالمعانى الآسرة والدلالات الساحرة. فسبحان من هذا كلامه !
والخلاصة:
بعد هذا البيان الموجز ، وإن طال ، لا أرانا فى حاجة إلى ذكر توجيهات النحاة والمفسرين وعلماء القراءات واللغويين ، لمجئ " الصابرين "
منصوباً بعد مرفوع فى هذه الآية ، لأن توجيهاتهم ـ هنا ـ مثل توجيهاتهم هناك ، ولسنا فى حاجة كذلك إلى الاستشهاد بالمأثور عن العرب الذين يحتج بكلامهم على قواعد اللغة ، وطرائق استعمالاتها ، لسنا فى حاجة إلى ذلك ، وإن كان مفيداً ، لأن القرآن الكريم حُجة فى نفسه ، غير مفتقر لإقامة الدليل من خارجه على صحة شىء فيه ، فهو النموذج الممتاز الأعلى للغة العربية ، قواعدها ، ونحوها ، وصرفها ، وبيانها ، وبلاغتها. وحسبنا فى هذه الآية المعانى التى أمطنا عنها اللثام فى مجىء " الصابرين " منصوباً بعد مرفوع.
المراجع
(1) النساء: 162.
(2) الكشاف (1/582).
(3) الكتاب (1/248).
(4) إملاء ما مَنْ به الرحمن (1/202).
(5) انظرفى هذه الشواهد:الدر المصون (4/154).
(6) انظر: الدر المصون (4/155).
(7) البقرة: 177.
0 comments:
Post a Comment