Monday, 4 November 2013

شبها حول الأخطاء النحوية في القرآن الكريم : جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً

الصفحة الرئيسية

منشأ هذه الشبهة:
 هو قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون ) (1).
 ذكروا هذه الآية ، ووقفوا عند قوله تعالى: (الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ) (ذهب الله بنورهم (وعلقوا عليه قائلين: وكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً ، فيقول: " استوقد ـ ذهب الله بنوره " !.
 الرد على الشبهة:
 هذه الآية مضروبة مثلاً لبيان حال المنافقين فى تذبذب أحوالهم وتقلبهم فى مواقفهم ، وانتهازهم الفرص السانحة لتحقيق أغراضهم الدنيوية. وعدم ثباتهم على مبدأ خلقى قويم ، وقد تقدم على هذه الآية آية أخرى تصف سعيهم الضال ، وإيثارهم منافع الدنيا العاجلة الفانية ، على ما عند الله ـ عز وجل ـ مقضياً عليهم بالخسران المبين ، وهى قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) (2).
 ثم استأنف القرآن الحديث عنهم فى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون (.
والمثل ـ بفتح الثاء ـ هو الشأن والقصة الغريبة التى يكون عليها المتحدث عنه ، وهو ـ هنا ـ المنافقون ، مَثَّلَ الله حالهم وشأنهم الذى هم عليه ، وقصتهم الغريبة الراسخة فى طباعهم بمثل رجل ، أو فريق من الناس طلب إيقاد نارٍ للانتفاع بها فى تحقيق الرؤية ، وإبصار الطريق للسير فيه ، فلما أضاءت النار ما حوله وفرح بها سرعان ما أطفاها الله فأظلمت عليه الدنيا ، فوقع فى حيرة وارتباك.
 وجمع الضمير فى " بنورهم " ليس عائداً على " الذى " المفرد المذكور فى (كالذى استوقد ناراً (، وقد وجَّه النحاة جمع الضمير بعد " الذى " فقالوا: إن الذى ليس بمعنى المفرد ، بل هو بمعنى " الذين " وذكروا أن " الذى " فى الاستعمال اللغوى له معنيان:
الأول: أن يكون بمعنى المفرد ، وهو الغالب والكثير فيه.
والثانى: أن يكون بمعنى الجمع ، ويُفرَّق بينهما بالقرائن ، ففى الآية التى معنا: " الذى " بمعنى الفريق أو الفوج الذى استوقد النار.
 هذا رأى فى توجيه رد الضمير جمعاً على " الذى " وقد عبروا عن هذا بقولهم: أراد بالذى جنس المستوقد ، لا فرداً معيناً (3).
 ويرى الإمام الزمخشرى أن " الذى " هو ـ هنا ـ "الذين " حذفت منه " النون " لاستطالته ، وهو مثل " وخضتم كالذى خاضوا " وليس فى الكلام تشبيه الجماعة بالواحد على هذا التأويل ، وأن المشبه هو حال المنافقين ، بحال الذى استوقد ناراً. تشبيه معنى مركب بمعنى مركب ، وليس تشبيه ذوات المنافقين بذات الذى استوقد ناراً ، فهذا غير مقصود ، وإنما المقصود هو تشبيه قصة المنافقين المضروب لها المثل ، بقصة المستوقد للنار ، وأن وجه الشبه بين القصتين هو: " فبقوا خابطين فى ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح فى إحياء النار " (4).
ويقول الإمام الشوكانى:
 و " الذى " موضوع موضع الذين ، أى كمثل الذين استوقدوا ، وذلك موجود فى كلام العرب ، كقول الشاعر:
 وإن الذى حانت بفلج دماؤهم
 همُ القوم ، كل القوم ، يا أم خالد
 ومنه " وخضتم كالذى خاضوا " و " والذى جاء بالصدق وصدَّق به ، أولئك هم المتقون " (5).
 والخلاصة:
 بعد هذا العرض لأئمة النحاة والمفسرين يتضح جليًّا أن الاستعمال القرآنى فى " مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم " استعمال عربى فصيح فى غاية الفصاحة ، وله شواهد فى كلام العرب المحتج بكلامهم ، وإن كان القرآن غنيّا عن الاستشهاد من خارجه على عروبته وسلامته من كل خطأ ؛ لأنه من أصح مصادر اللغة العربية ، ومع هذا فإن ما قاله الأئمة الأعلام يحيل شبهة هؤلاء المتطاولين على كتاب الله العزيز هباءً منثوراً ، هذا هو دور النحو فى إبطال هذه الشبهة ، وللبلاغة دور مهم فى الرد عليهم نلخصه فى الآتى:
 إن المثل فى الآية مسوق أساساً لتمثيل شأن المنافقين ، أما قوله تعالى: " كمثل الذى استوقد ناراً " ، فأمر عارض اقتضاه مقام الحديث عن تمثيل حال المنافقين فهو أشبه ما يكون بالجملة الاعتراضية ، لولا أنها مشبه به ، ولما أدت الدور المراد منها تحول الحديث إلى الأصل المسوق من أجله الكلام ، وبدأ هذا التحول من قوله تعالى: " ذهب الله بنورهم " فَجَمْعُ الضمير فى " بنورهم " منظور فيه إلى نظيره فى " مثلهم " فكان ضمير الجمع فى " بنورهم " مطابقاً أصالة لمقام الحديث أما " الذى استوقد ناراً " فصار مسكوتاً عنه بعد أداء دوره المراد منه.
 وعلى هذا فإن التوجيه البلاغى لجمع الضمير فى " بنورهم " يغنى عن التوجيهات التى أبداها النحاة والمفسرون إذ لا معول فى التوجيه البلاغى على اعتبار " الذى " بمعنى الذين ، أو هو " الذين " حذف منه النون.
 ومحال أن يستقيم ما قاله مثيرو هذه الشبهة أن الصواب هو إفراد الضمير فى " نورهم " لأنه لو قيل: ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يبصر ، لتحول الكلام إلى غير المنافقين المضروب لهم المثل ، ولزالت كل الروابط بين صدر الآية وعجزها. وهذا لا يقول به عاقل.
المراجع
(1) البقرة: 17.
(2) البقرة: 16.
(3)انظر: أنوار التنزيل للإمام البيضاوى (1/30) وحاشية الشهاب على البيضاوى (1/365).
(4) الكشاف (1/199).
(5) فتح القدير (1/55).

0 comments:

Post a Comment

 
Design by Wordpress Theme | Bloggerized by Free Blogger Templates | coupon codes تعريب : ق,ب,م